في وقت حان فيه أوان الحقيقة وظهرت فيه مدى هشاشة استعدادات العدو الصهيوني في حروبه الأخيرة في فلسطين، والضربات التي يتلقاها على رأسه يومًا بعد يوم، والتي تشي بأن العد العكسي للكيان الصهيوني قد بدأ، بات السؤال القادم هو: إلى أين سيرحل هؤلاء المارقون؟
اذا أردنا توصيف مراحل قيام الدولة الصهيونية في حياة الأمة العربية فسنجد أنها 25 عاماً من التمدد الصهيوني، وهي الأعوام الممتدة ما بين 1948- 1967، ثم 27 عاماً من الانحسار والمراوحة في المكان، تخللها اجتياح لبنان في العام 1978 و1982، والاعتداءات التي حصلت في 1993 و1996. وصولا الى التحرير في العام 2000 حتى 2006 حيث دخلنا مرحلة الانحسار الحقيقي. أما ما بعد العام 2006، فقد ابتدأ التحضير لما أسماه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله بـ”المعركة الكبرى”، معركة زوال “اسرائيل”، أي أننا دخلنا اليوم في مرحلة الزوال.
مرحلة الزوال محتومة ليس فقط بالنبوءات الكبرى التي يعتقد بها أصحاب الأديان السماوية كافة، ونحن نتطرق اليها الآن من منطلق فهم تخوفات الكيان الصهيوني من عدم بلوغ “اسرائيل” عامها الثمانين. ولكن في الحقيقة لقد بات الأمر محتماً بشكل عملي بعد نهوض الأمة من كبوتها ودخولها مرحلة الاستيقاظ من ترهات قيود القرارات الدولية، التي لم تحرر يوماً أية أرض عربية. وعند استعراض تاريخ الصراع مع هذا العدو فلا يمكننا إلا القول بأن أهل الأرض لم يتوانوا يوماً عن التضحية من أجلها ولو حتى من باب العمليات البطولية المنفردة في فلسطين ومصر والأردن وتونس.. ومن جميع الدول العربية، ولم يخل تاريخنا ولو لعام واحد من العمليات أو البطولات.
وكي لا نبخس القادة حقوقهم فمنذ أن قرر الرئيس جمال عبد الناصر الدخول في حرب الاستنزاف 1968 والتي كانت أولى العمليات التي أنهكت الصهيوني، بعد نكبة السادس من حزيران/ يونيو 1967، تم بعدها التوصل إلى اتفاق العرقوب في 1969 وبدأت العمليات الفدائية من جنوب لبنان. ابتدأت بعد ذلك جولة جديدة من هذه المرحلة مع حرب تشرين التحريرية في العام 1973، التي تلتها حرب استنزاف في تلال الجولان توجت بتحرير مدينة القنيطرة. في العام 1982 وخلال الاجتياح الإسرائيلي الثاني للبنان، جاءت معركة السلطان يعقوب وتحت ضربات العمليات البطولية للمقاومة خرج العدو من بيروت وانسحب مدحوراً حتى حدود الشريط الجنوبي المحتل في العام 1985. ثم انطلقت الانتفاضة الأولى في فلسطين المحتلة والتي أجبرت العدو على الدخول في محادثات والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية. حتى العام 1992 أنهكت ضربات المقاومة اللبنانية مجتمعة الإسرائيلي، واستمرت المقاومة الإسلامية بعملياتها ودحرت العدو وحررت الجنوب اللبناني في العام 2000. لكن تسجيل الانتصارات لم يتوقف عند هذا الحد، فكلنا يتذكر انتصار تموز/ يوليو 2006، واجتياح غزة 2009 وانتصار الفلسطينيين وتم دحر الجيش الصهيوني في غزة.
هذا الكلام يجب إعادة الحديث فيه مراراً وتكراراً، لأن العدو يستعرضه ويعيد تكراره في كل يوم، وهو يقرأه ويدرسه ويبني بناء عليه خططه المستقبلية وتحضيراته. وهذا التاريخ من التمدد والمراوحة والانحسار وصولاً إلى الزوال، تاريخ يخشاه الإسرائيلي ويرعبه. فهو يعرف أن معركتنا معه قد تدخل في مرحلة مد وجزر تقتضيها بعض الظروف المحلية أو الإقليمية أو الدولية، ولكن المقاومة لم تتوقف يوماً عن كونها حالة مستمرة منذ ما قبل أيام الانتداب وحتى اليوم، فالصهاينة ومن جاء بهم يعلمون أن فلسطين ليست الأمريكتين أو استراليا، التي دخلها المستعمر الأوروبي المتوحش وقام بتنفيذ المجازر للتخلص من السكان الأصليين كي يتسنى له سرقة الأرض والذهب. فلسطين ليست بلداً بلا شعب حتى تمنح لشعب بلا بلد، إذا جاز تسمية معتنقي دين بأنه شعب صافي العرق، بسبب العزلة والكراهية التي فرضت عليه داخل المجتمعات الأوروبية. والعزلة التي عاشها اليهود داخل مجتمعاتهم فهي تزيد من تخوف الصهاينة من بدء العد العكسي لزوال الكيان الاسرائيلي والنتائج التي ينتظرونها ترتعد فرائضهم.
تسببت العزلة التي عاشها اليهود في داخل أحياء خاصة بهم على طول وعرض القارة الأوروبية بخلق شرخ كبير بينهم وبين باقي المجتمعات الأوروبية. وقد عمل هؤلاء على طول تاريخهم مرابين، وتجار مال. فعائلة روتشيلد، على سبيل المثال، هي صاحبة البنك الدولي بجميع فروعه حول العالم ومثلها كثيرون. هذه العزلة التي عاشها اليهود في اوروبا هي التي يخشون العودة إليها بعد انتهاء دولتهم المارقة. ومن السهل ملاحظة أن الصهاينة في فلسطين وحتى اليوم يعيشون أسرى في داخل المستوطنات المسورة التي بنوها في القدس والتلال المحيطة بها وفي غزة والضفة الغربية وحتى في الجليل والجولان. وسياج الفصل العنصري الذي بناه الصهاينة ليس إلا دليلاً أنهم تعودوا العيش في الغيتوات المسيجة. لكنهم يعيشون اليوم في غيتواتهم التي يقدرون على ممارسة عنصريتهم فيها، والتي استمدوها من قناعاتهم المزيفة بأنهم شعب مختار يستطيع أن يقتل ويسرق ويحتل غيره دون أن يتحمل عواقب أعماله الشنيعة، وإذا ما ابتدأت حركة الزوال من فلسطين فإن العائدين لن يستطيعوا ممارسة عنصريتهم وبشاعتهم في اوروبا وغيرها.
على المقلب الأوروبي، السؤال الذي يجب طرحه هنا، هل الأوروبيون سيقبلون بعودة مجتمعات الغيتو إلى أوروبا وبأكبر من الحجم الذي كانوا عليه؟ من الطبيعي القول إنه بسبب السمعة السيئة التي اكتسبها “الإسرائيليون” كقوة احتلال عنصري لن يكون من السهل تقبلهم في أوروبا وخاصة مع صعود القوى اليمينية وانتشار حركة النازية الجديدة فيها. قد يعود اليهود المتصهينون إلى أحيائهم التي خرجوا منها، غير أن حقيقة تحولهم إلى دمويين استباحوا حتى دماء الأطفال، لن تجعل الأوروبيين قادرين على التعايش معهم وتأذن بتخوفات من حصول صدامات مسلحة معهم. وهنا علينا أن نعرف أن يهود ألمانيا وفرنسا، أو من بقي منهم أحياء، وحتى يهود غرب اوروبا وبريطانيا لم يهاجر إلا قلة قليلة منهم إلى فلسطين، وحتى اليوم ليس هناك تقارير عن هذه المجموعات في فلسطين، ومعظمهم هاجروا إلى أمريكا الشمالية، أي إلى الولايات المتحدة وكندا، ويسمى هؤلاء بيهود السفارديم أو السفارديين. وهم أساساً اليهود الذين رافقوا الفتوحات الإسلامية إلى اسبانيا ثم طردهم الإسبان والبرتغاليون فتفرقوا في أوروبا الغربية.
وما علينا أن نعرفه أيضاً، أن يهود شرق أوروبا في بلغاريا وهنغاريا وبولندا تحديداً، وصلوها بعد أن لاحقهم بطرس الأكبر وطرد قسمًا كبيرًا منهم من روسيا بسبب ممارساتهم العنفية ضد فلاحي روسيا ومؤامراتهم التي حاكوها ضد القيصرية الروسية، وهم المعروفون بيهود الأشكناز، والذين يشكلون الطبقة الحاكمة والغنية والمتحكمة بالمجتمع الصهيوني. تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية، هو مجري، أو هنغاري وجميع قادة “اسرائيل” هم إما يهود بولنديون أو روس أو مجريون وهؤلاء لن تقبل أوروبا بإعادة استقبالهم. عند بداية الحرب الروسية- الأميركية في أوكرانيا تحدث الأميركيين عن أن الأخيرة قد تغدو يوماً “اسرائيل” الثانية، فهل جاء فلوديمير زيلنسكي للحكم كيهودي مصادفة من أجل ترحيلهم إليها؟ وقد كتبنا في “العهد” عن المكانة الهامة التي يشغلها المرتزقة الأوكران في الجيش الصهيوني، وأنهم عماد القوة المستخدمة في اقتحام القرى الفلسطينية وقتل الرجال العزل فيها والأطفال والشيوخ والنساء. فهل سيرحل هؤلاء إلى “اسرائيل” الجديدة؟ وهل سيستقبلهم الروس أو حتى البولنديون، اذا ما تم اقتسام أوكرانيا بينهما؟
وأما القسم الأخير من صهاينة فلسطين فهم المهاجرون إليها من الدول العربية، وهم اليهود الشرقيون. وهناك أيضًا اليهود الفلاشا القادمون من الحبشة، فما هو مصير هؤلاء؟ وهل سيقبل العرب استقبالهم؟ وهل يمكن إعادة بناء الثقة بينهم وبين باقي الشعب العربي بعد ما شهدناه من مجازر ليس فقط ضد الفلسطينيين ولكن ضد الجيش المصري؟ لقد أعدم الصهاينة، على هامش حرب حزيران/ يونيو 1967، 15 ألف مجند بعد استسلامهم بالرصاص والقوا بجثثهم في قبور جماعية في سيناء. وهل نسي المصريون مذبحة أطفال مدرسة البقر في العام 1970 رداً على حرب الاستنزاف؟ هل سينسى أهل الجولان والحمة السورية سرقة أراضيهم وممتلكاتهم واعتقالهم على أيدي صهاينة فلسطين بغض النظر عن الجهة التي قدموا منها؟ هل يمكننا نسيان مجازر العصر في قانا والمنصوري وزبقين، وقبلها في دير ياسين والصفورة وكفر قاسم وغيرها؟ لا أحد يتوقع العيش معهم بأمان!
لقد وصل الصهاينة إلى حد من العنجهية والعنصرية غير المسبوقة لدى أي شعب من شعوب العالم، والتي غلبت عنصرية الرجل الأبيض في المستعمرات، والتي لا يمكن للأوروبيين احتمالها ولا يمكن للصهاينة التعاطي مع الآخرين دون الوقوع في أتونها. ولهذا السبب يتوقع جميع الصهاينة أن تكون نهاية من سيتبقى منهم في البحر، كما نهاية السفن التي غرقت في المتوسط والبحر الأسود والتي هدفت إلى إعادة اليهود إلى بلادهم بعد أن توقفت بريطانيا لفترة من الزمن عن السماح لهم بالهجرة إلى فلسطين خلال عشرينيات القرن الماضي. في الحقيقة، لقد باتوا في وضع ليس أمامهم سوى بدء الهجرة ليجدوا مكاناً يأوون إليه قبل ان تقع قريباً “الفاس بالراس”.
العهد الاخباري/ عبير بسّام