العين برس:
على الرغم من الدعم الذي تحظى به “إسرائيل” من الولايات المتحدة والغرب ودول أخرى، فإن نظرية “القلب المنشّط بالقوة” التي اعتمدتها منذ احتلالها فلسطين بدأت تفقد زخمها منذ حرب تموز 2006.
الانتصار اللبناني على أعتى جيش في الشرق الأوسط هو أمثولة حيّة للشعوب التي ترفض الاستسلام لقوة البطش والترهيب
في الرابع من حزيران/يونيو 1968، وبمناسبة مرور عام على حرب حزيران/يونيو التي انتصرت فيها “إسرائيل” على الدول العربية، تحدّث الجنرال الإسرائيلي، موشي ديان، عن نظرية إسرائيلية عنوانها “القلب المزروع في المنطقة”، قائلاً: “إننا قلب مزروع في هذه المنطقة، غير أن الأعضاء الأخرى ترفض قبول هذا القلب المزروع. لذلك، لا خيار أمامنا سوى حقن هذا القلب بمزيد من الحقن المنشّطة من أجل التغلب على هذا الرفض”.
عملياً، تجلّت هذه الحقن المنشطة في تكريس التفوق العسكري لجيش الاحتلال، وإقامة التحالفات التي تخرق وحدة الصف بين دول المنطقة المناهضة للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، لكن التطورات تثبت فشلها كما يلي:
1- بالنسبة إلى عقيدة التفوق العسكري
استمرّ التفوق العسكري الإسرائيلي، منذ حرب حزيران/يونيو 1967 لغاية حرب تموز/يوليو 2006، بحيث أسقط اللبنانيون هذه العقيدة إلى الأبد، وانتهى معها عصر “الجيش الذي لا يُهزم”.
لا يُخفي التفكير العسكري الإسرائيلي، اليوم، أن عصر الانتصارات الواضحة والساحقة انتهى، وأن على “إسرائيل” أن تعترف بمحدودية قوتها. وهو ما قاله رئيس أركان الاحتلال الإسرائيلي، المعيّن حديثاً، الجنرال هرتسي هليفي (الذي سيستلم مهمّاته عند انتهاء ولاية كوخافي في كانون الثاني/يناير 2023).
يؤمن هليفي بعقيدة بناء قوة قتالية متعددة الأبعاد في الوقت نفسه، وأن على الجيش أن يؤسّس عقيدة “تعزيز الدفاع” في مواجهة حزب الله، وقال في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية عام 2013: “في مواجهة لبنان، لا أعتقد أنه يوجد حرب أو عملية يمكن أن تحلّ المشكلة. الموضوع الأكثر أهمية هو كيف تُنتج فجوة زمنية أكبر بين الحروب”، مؤكداً أن على “إسرائيل” ان تكون مستعدة “لدفع الثمن لشن حرب حاسمة وقوية للغاية من أجل إطالة الفجوة الزمنية أطول وقت ممكن”.[1]
2- في موضوع التحالفات الإسرائيلية
أ- تطبيق “عقيدة الأطراف”
في العقود الأولى من خلق الكيان الإسرائيلي، استخدم الإسرائيليون مبدأ “عقيدة الأطراف”، وهي تعني تطوير تحالفات استراتيجية مع الدول الإسلامية غير العربية في الشرق الأوسط لمواجهة الموقف الموحَّد للدول العربية تجاه احتلال فلسطين. وعليه، قام دايفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للاحتلال الإسرائيلي، بعقد تحالفات وثيقة مع كل من تركيا وإيران – الشاه وإثيوبيا.
كانت “عقيدة الأطراف” تقضي أيضاً باختراق الدول العربية عبر التحالف مع الأقليات، ومنها الموارنة في لبنان، والكرد في كل من تركيا والعراق. وما زال إقليم كردستان في العراق يحافظ على علاقات جيدة وعلنية بـ”إسرائيل” لغاية اليوم.
ب- “الاعتدال” في مقابل “الممانعة”
لاحقاً، خسر الإسرائيليون الحليف الإيراني بعد الثورة الإسلامية في إيران، ثم تمّ توقيع اتفاقيات سلام مع “إسرائيل” من جانب بعض الدول العربية وبعض الفلسطينيين، على أساس مبدأ “الأرض في مقابل السلام”، فانقسم العرب والدول المحيطة بـ”إسرائيل” بين ما سُمِّي “محور الاعتدال” في مقابل دول “محور الممانعة”، التي استمرت تمانع الاعتراف بـ”إسرائيل” وتضع شروطاً أعلى لـ”السلام” معها، وعلى رأسها سوريا.
خلال هذه الفترة، تمّ تفكيك الاتحاد السوفياتي وإعلان الدول المنضوية فيه استقلالها، فسارعت “إسرائيل” إلى الاعتراف بالجمهوريات المستقلة في آسيا الوسطى، واستمرت في اعتماد سياسة “الطوق خارج الطوق”، والذي هو جزء من عقيدة “الأطراف”، السابق ذكرها.
ج- “السُّنّة” في مقابل “الشيعة”
في إثر الغزو العسكري الأميركي للعراق عام 2003 وما تلاه، تمّ تأجيج الصراع السنّي – الشيعي في المنطقة. في عام 2008، ناقش مؤتمر هرتسيليا، الذي يُعقد سنوياً في “إسرائيل”، ما أُطلق عليه وصف “الشرخ الشيعي – السني: جذوره وأبعاده الاستراتيجية”. وعلى مدى أعوام، أكدت توصيات المؤتمر أنَّ من مصلحة “إسرائيل” أن تساهم في تذكية ذلك الصّراع.
وخلصت توصيات المؤتمر نفسه في عام 2013 – بكل وضوح – إلى “ضرورة تكريس الصراع السني – الشيعي، من خلال السعي لتشكيل محور سنّي من دول المنطقة، أساسه دول الخليج ومصر وتركيا والأردن، ليكون حليفاً لإسرائيل والولايات المتحدة، في مقابل “محور الشر” الذي تقوده إيران، والذي سيكون، بحسب التقسيم الإسرائيلي، محوراً للشيعة” (انظر “توصيات مؤتمر هرتسيليا في عام 2013”).
على هذا الأساس، حاولت “إسرائيل” أن تسوّق نفسها حليفةً للسنّة في العالم العربي، وتدّعي أنها “تُؤازرهم” في مواجهة “موجة التشيّع” في المنطقة، واحتواء النفوذ الإيراني الممتد من طهران إلى لبنان، أو ما وصفه ملك الأردن، عبد الله الثاني، بـ “الهلال الشيعي”.
د- “المطبّعون” في مقابل “الرافضين للتطبيع”
مؤخراً، بعد توقيع اتفاقيات التطبيع (سُميت “أبراهام”) بين بعض الدول العربية و”إسرائيل”، انقسم العالم العربي بين “دول التطبيع” والدول الرافضة للتطبيع مع “إسرائيل”.
تحاول “إسرائيل”، ومعها الولايات المتحدة، أن تسوّقا أن التطبيع مرادف للازدهار الاقتصادي والاستقرار أمنياً وسياسياً. فالدول التي ترفض التطبيع سوف تكون عُرضة لاهتزازات أمنية وسياسية وضغوط اقتصادية من جانب الغرب (وخصوصاً الولايات المتحدة) من أجل أن ترضخ وتسير في قطار التطبيع مع “إسرائيل”، ومعها يتحقق الأمن الإسرائيلي الذي يلتزمه الأميركيون “إلى الأبد”، كما تنص الوثيقة التي وقّعها بايدن في زيارته المنطقة في تموز/يوليو الفائت. لكنّ استطلاعات الرأي الأميركية أثبتت أن التطبيع “من فوق” لا يجد قبولاً لدى الشعوب في الدول التي قامت بتوقيع اتفاقيات التطبيع مع “إسرائيل”.[2]
في النتيجة، على الرغم من كل الدعم الذي تحظى به “إسرائيل”، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، من الولايات المتحدة والغرب وعدد من دول العالم الأخرى، فإن نظرية “القلب المنشّط بالقوة”، والتي اعتمدتها “إسرائيل” منذ احتلالها فلسطين، بدأت تفقد زخمها منذ حرب تموز/يوليو 2006. وما الانتصار اللبناني على أعتى جيش في الشرق الأوسط إلّا أمثولة حيّة للشعوب التي ترفض الاستسلام لقوة البطش والترهيب، وترفض التطبيع بالقوة، وتشق طريقها نحو الحرية بدماء أبنائها.
الهوامش:
[1] https://www.nytimes.com/2013/11/16/world/middleeast/to-a-philosopher-general-in-israel-peace-is-the-time-to-prepare-for-war.html
[2] https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/alara-fy-mkhtlf-aldwl-hwl-alttby-alrby-alasrayyly-watfaqyat-abrahym
المصدر: الميادين