جَسْرَ الخلافات القائمة بين دول المنطقة يحتاج إلى تغيرات سياسية كبيرة، قد لا تكون متاحة اليوم، وخير مثال على ذلك العلاقات السورية-التركية.
استحوذت تصريحات الرئيس التركي الأخيرة، في ما يخص العلاقة بسوريا، على اهتمامات وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية، والتي أسهبت في تحليلاتها وتوقعاتها حيال إمكانية حدوث تحوّل نوعي في مسيرة علاقات الدولتين، مستندة في ذلك إلى مجموعة معطيات، أبرزها الوساطة الروسية والإيرانية. لكن النفي السوري السريع، وضع حداً لتلك التكهنات، التي وصلت إلى مرحلة الحديث عن اتصال هاتفي مرتقب بين الرئيسين.
في منطقة اعتادت الانقلابات السياسية المفاجئة في علاقات دولها، لا يبدو ما جرى تداوله مؤخراً مستغرباً في سياقه العام، إنما عندما تكون دمشق طرفاً في الأمر، يصبح للمسألة وجه آخر، وتحديداً عندما يكون الطرف الآخر المقابل هو “إسرائيل” أو تركيا، وذلك بالنظر إلى كونهما تحتلان أراضي سورية. والسياسة السورية حيال ذلك ثابتة ولم تتغير، رغم سنوات الحرب القاسية. لا بل إن الحكومة في دمشق تستمد جزءاً من شرعيتها الشعبية من مواقفها السياسية المعلنة حيال الصراع العربي –الإسرائيلي.
لكن، وفي ضوء تعدد الخلافات والنزاعات القائمة بين دول المنطقة، فإن التساؤلات المثارة في عقل أيٍّ منا تتجاوز مسألة التوقعات المرتقبة حيال مستقبل علاقات دمشق وأنقرة، على أهميتها، لتصل إلى الفرص الممكنة لاستمرار مسلسل المفاجآت السياسية على صعيد علاقات دول المنطقة بين بعضها البعض، والذي كانت إحدى أهم حلقاته الانفتاح الإماراتي والسعودي على تركيا، والمصالحة المصرية-القطرية وغيرها. فما هي الأسباب التي تدعم أو تحول دون حدوث مثل هذه المفاجآت؟
خلافات إلى حد الحرب
بداية، لا بدّ من الاعتراف بأن الخلافات القائمة بين دول المنطقة، تختلف في ما بينها لجهة الأسباب والمستوى الذي بلغته، من خلافات عميقة وصل بعضها إلى مرحلة الصدام العسكري المباشر أو غير المباشر، وتالياً فإن جَسْرَ تلك الخلافات يحتاج إلى تغيرات سياسية كبيرة، قد لا تكون متاحة اليوم. وخير مثال على ذلك العلاقات السورية-التركية وما شهدته من تطورات عمَّق من شرخها التدخل التركي العسكري المباشر في الأزمة السورية.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى العلاقات الإيرانية-السعودية، التي يخيم توترها على استقرار عموم المنطقة، وإن كانت لم تصل بعد إلى مرحلة الصدام العسكري المباشر. ولا تخرج العلاقات اليمنية -الخليجية عن هذا الإطار أيضاً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى العلاقات الجزائرية-المغربية.
في المقابل، هناك خلافات أخرى أكثر شيوعاً إلا أنها أقل حدة، وتنشأ عادة من جراء المواقف السياسية المتباينة للدول، كالموقف المتباين بين الدول العربية من مسألة التطبيع مع “إسرائيل”؛ فهناك دول تعارض بشدة هذا الخيار، وهناك دول أخرى تؤيده بنسب مختلفة. لكن ذلك لم يشكل عائقاً أمام استمرار علاقات الدول العربية ببعضها البعض، ولم يكن كذلك سبباً مباشراً في حدوث قطيعة أو عداء بينها أيضاً، إنما كان دوماً مادة للتراشق الإعلامي عند حدوث أي توتر سياسي.
ينطبق هذا الأمر في بعض جوانبه على الموقف العربي من الأزمة السورية؛ فالتأييد الذي تلقاه دمشق من بعض العواصم العربية، لم يؤثر في علاقات الأخيرة بباقي الدول العربية، وتحديداً تلك التي كان لها موقف عدائي من دمشق، منذ بدايات عام 2011، تاريخ اندلاع الأزمة السورية. هنا تحضر الجزائر، سلطنة عمان، السودان، موريتانيا، العراق، وغيرها من الدول التي حافظت على علاقاتها السياسية والدبلوماسية بدمشق. وحتى الإمارات التي بقيت بعيدة عن أي تورط عسكري في الأزمة السورية، فإن استعادة علاقاتها بدمشق كانت أسهل بكثير من أن تفعل ذلك الدوحة أو الرياض.
لذلك، فإن الأحداث الكبرى التي تنتظرها المنطقة، تبقى حكراً على خلافات النوع الأول، لأن جَسرَها بات يحتاج إلى استدارة وتنازلات سياسية عديدة، وأحياناً باتت بحاجة إلى شيء أشبه بالمعجزة السياسية. فمثلاً، أن تهبط طائرة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في مطار طهران أو صنعاء أو دمشق، هو حدث يبدو مختلفاً في أهميته ومغزاه السياسي عن زيارة يقوم بها رئيس الوزراء العراقي إلى الكويت مثلاً أو إلى الأردن؛ حيث يبدو البَلَدان على نقيض تام في مسألة التطبيع.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الاتصال الهاتفي الذي رُوج له مؤخراً بين الرئيسين السوري والتركي، أو ذلك الذي يُطمح إليه بين الرئيس السوري وولي العهد السعودي، فهو مختلف في أبعاده وتوقيته عن اتصال يجريه رئيس الوزراء الإسرائيلي بالملك المغربي مثلاً.
لم نتطرق إلى مفاجآت العلاقات العربية-الإسرائيلية، بالنظر إلى أنها لم تكن في يوم من الأيام “بنت لحظتها” كما يقال شعبياً، وإنما هي نتيجة تراكمية لاتصالات ولقاءات ثنائية جرت على أكثر من مستوى، وأفضت إلى إعلانات وزيارات وتوقيع اتفاقيات. قد تكون مفاجئة شعبياً، لكنها ليست كذلك سياسياً.
التغييرات المطلوبة
أن تتحول الخلافات السياسية العميقة إلى جزء من الماضي، أمنية لا يمكن أن تتحقق ما لم يطرأ تغير ما على المشهد السياسي العام في المنطقة من قبيل:
– عودة الدول العربية إلى التزامها بحقوق الشعب الفلسطيني وعدم المساومة عليها، والتعامل مع الكيان الصهيوني كخطر دائم يهدد الوجود العربي. وتحقيق مثل هذه الأولوية، من شأنه معالجة حالة الاحتقان الرسمي والشعبي السائدة أو المسيطرة على العلاقات العربية-العربية. فالتطبيع المجاني مع “إسرائيل” تسبب، ويتسبب، بحدوث تصدع أكبر في جدار العلاقات والمصالح العربية البينية.
– التزام الدول فعلياً بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، واحترام سيادتها ومصالحها السياسية والاقتصادية. وهذا يعني مثلاً أن تعلن أنقرة سحب قواتها من الأراضي السورية، ووقف دعمها للفصائل المسلحة بمختلف تسمياتها ومرجعياتها، وسحب ما يسمّى “التحالف العربي” قواته من اليمن، وترك الشعب اليمني يقرر مصيره ومستقبله. والسؤال: هل يمكن أن يحدث ذلك؟ ومتى؟
– الاعتراف بوجود قوى إقليمية لها مواقفها ورؤاها السياسية. وما دامت هذه القوى ملتزمة بسيادة الدول واستقلالها، ومستعدة للتعاون الإقليمي بما يحفظ مصالح الدول وحقوقها، فإن الأولوية هي لاستقرار المنطقة، وبناء شبكة متوازنة من العلاقات والمصالح. وهذا يعني تحييد دور الدول الخارجية الرافضة لمسألة الاعتراف بوجود قوى إقليمية لها حضورها وتأثيرها. والمقصود هنا ليس فقط الموقف الغربي من إيران، بل كذلك الموقف من السعودية، سوريا، ومصر، مع تمايز كل دولة عن أخرى.
– تركيز دول المنطقة على مصالحها المشتركة في مختلف المجالات والقطاعات، لتكون بمنزلة خطوة أولى على طريق استعادة العلاقات السياسية لدفئها وحيويتها. فاليوم، وفي ظل ما يتهدد المنطقة والعالم من مخاطر تتعلق بالطاقة، المناخ، الغذاء، الصحة، ومواكبة التكنولوجيا الرقمية، وغيرها، يصبح التعاون والتنسيق الثنائي والإقليمي خياراً إجبارياً، وإلا فإن الخسارة ستكون من نصيب الدول الرافضة لذلك التعاون.
ليست كبسة زر
أن تصل علاقات بعض الدول إلى مرحلة اللاعودة، فإن ذلك يجعل من الأخبار المتداولة بشأن وجود خرق سياسي منتظر حولها، إما أنها مجرد تحليلات واستنتاجات معينة لا تأخذ بعين الاعتبار إرث العداء المتكون عبر زمن القطيعة، أي أنها تتعامل مع علاقات الدول من قبيل أنها أشبه برجل ثلج يذوب بسكب قليل من الماء، ولذلك فإن فرص تحقق تلك التحليلات أقل بكثير من فرص عدم تحققها؛ أو أن تلك الأخبار عبارة عن تسريبات صحيحة، وتمثل نتيجة مفاوضات واتصالات جرت على مدار أشهر. وربما يكون الاتصال الهاتفي الذي جرى قبل أشهر قليلة بين الرئيس بشار الأسد والملك عبد الله الثاني، وكان الأول منذ عام 2011، خير أنموذج.
إذ إنّ الاتصال المذكور توج جهوداً ولقاءات استمرت على مدار أكثر من عام، جرى خلالها الاتفاق على كثير من النقاط والملفات.
المصدر: الميادين