العين برس:
تتميّز الانتفاضة الثالثة بذكاء نضالي فريد في الحالة الفلسطينية، يعود إلى دراسة فطرية لحصيلة التجارب الفلسطينية السابقة في مواجهة العدو. وأبرز ما يميز الانتفاضة المندلعة هو إعلاء الهوية الوطنية والبعد عن التعصب التنظيمي.
يتمتع الشعب الفلسطيني بمخزون ثوري هائل تتوارثه الأجيال المتعاقبة، والروح الفلسطينية الوطنية تزداد عنفواناً، فلم يرهبها بطش العدو وغطرسته، ولم تحبطها الرهانات السياسية الفاشلة، ولم تحتوِها سياسات الترغيب والتدجين.
كاد الإحباط واليأس أن يسيطرا على المحبين والمناصرين للقضية الفلسطينية، بسبب مرور أعوام طويلة على ضعف الحالة الثورية في الضفة الغربية المحتلة، التي تعتبر الجبهة المتقدمة والساحة الاستراتيجية للمقاومة الفلسطينية في مواجهة العدو الصهيوني، بحكم موقعها الجيوسياسي، والوجود الاستيطاني وانتشار قوات العدو فيها، وتداخلها مع فلسطين المحتلة عام 1948، وعوامل أخرى.
ساهم عدد من العوامل في تأخير اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثالثة في الضفة الغربية. والمفارقة أنّ العوامل التي ساهمت في تأخير الانتفاضة الثالثة أدت إلى تهيئة البيئة الثورية الفلسطينية لإشعال انتفاضة ذكية مرشحة إلى التحوّل إلى انتفاضة تحرير الضفة المحتلة، الأمر الذي لم يتحقّق بعد انتفاضتي الحجارة عام 1987، والأقصى عام 2000.
كما أنّ مسار المفاوضات والتسوية و”حلّ الدولتين” أخفق تماماً في الحصول على الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، وأسهم في تكثيف الاستيطان والتهويد والجدار وقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
تتساءل أوساط العدو عن توصيف ما يجري في الضفة المحتلة، كما تسعى الأوساط الغربية، ولا سيما الأميركية، لتقدير الموقف في الضفة. وقد استدعت السيد حسين الشيخ، أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية، بهدف “تحسين البيئة الأمنية” في الضفة المحتلة، كما صرّح الشيخ في أعقاب لقاءاته بالمسؤولين الأميركيين.
بعيداً عن الاستغراق في التوصيف والتشخيص والتحليل للحراك الثوري في الضفة المحتلة، فإنّ لغة الأرقام والوقائع الميدانية على الأرض لا تكذب، فلا يكاد يخلو يوم من مواجهة مع العدو والمستوطنين، وعمليات إطلاق النار على مواقع وأهداف العدو باتت روتيناً يومياً، وانضمام الشباب إلى المجموعات الفلسطينية المسلحة، مثل كتيبة جنين وعرين الأسود في جنين ونابلس في ازدياد، الأمر الذي دفع قيادة العدو إلى نشر ما يقارب نصف قواته داخل الضفة المحتلة، فكل المؤشرات تدلّ على أن انتفاضة ثالثة تندلع في الضفة المحتلة بسمات ومعالم ذكية وخلّاقة، وحراك الانتفاضة الثوري يتطوّر ويتمدّد في إطاره الطبيعي والموضوعي الذي صاحب أغلب الثورات التي اندلعت ضد المحتل في فلسطين وخارجها، فشرارة الانتفاضة ووقودها اندلعت من جنين، وتمددت إلى نابلس، وستصل إلى الخليل وباقي مدن ومخيمات الضفة في قادم الأيام.
ونقدّر بأنَّ الخليل عندما تثور وتنتفض ستحدث فارقاً نوعياً في مسار الانتفاضة الثالثة. لذا، فإن ما يجري في الضفة هو انتفاضه فلسطينيّة ستكتمل أركانها وسيتطور حراكها تدريجياً، وربما بشكل أسرع مما نقدّره.
تتميز الانتفاضة الثالثة بذكاء نضالي فريد في الحالة الفلسطينية، يعود إلى دراسة فطرية لحصيلة التجارب الفلسطينية السابقة في مواجهة العدو. وأبرز ما يميز الانتفاضة المندلعة هو إعلاء الهوية الوطنيّة والبعد عن التعصب التنظيمي، فقد تشكلت مجموعات فدائية مسلحة في جنين ونابلس انضم إليها مقاتلون من توجهات تنظيمية مختلفة، وعدد منهم لا ينتمي إلى أي فصيل فلسطيني، وهي أشبه بالغرفة المشتركة التي تدير عمليات المقاومة ضد العدو والمستوطنين، وهي خطوة غاية في الذكاء، لكونها تسعى للتخلص من أحد عوامل إهدار الفرص وضعف تحقيق الأهداف في الثورات الفلسطينية السابقة، وهو حال الاستقطاب التنظيمي الذي أعلى من قيمة الهوية التنظيمية والأيديولوجية على حساب الهوية الوطنية، ما خلّف نزاعات وأحقاداً ساهمت في إجهاض المسار الثوري، كما أنَّ التجربة الثورية في الضفة استلهمت تجربة الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة في قطاع غزة التي تعتزم التحول إلى جيش فلسطيني تحت اسم “جيش القدس”.
إنّ السلوك الذكي والمبدع للفدائيين في الضفة المحتلة من خلال تشكيل كتائب عسكرية وطنية، سينعكس على تطوير الحالة الثورية في الضفة التي بدأت آثارها تظهر، ولا سيما مع انخراط عناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية في مواجهة “جيش” العدو وتنفيذ عمليات فدائية، ما أدى إلى استشهاد عناصر وضباط منهم، الأمر الذي قد يفقد سيطرة قيادة السلطة على عناصرها المسلّحة.
من ملامح الذكاء الفلسطيني في انتفاضة الضفة المحتلة، استثمار التطور التكنولوجي على صعيد الإعلام، ولا سيما الإعلام الرقمي، فقد تحولت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي إلى أداة تحريض للمقاومة، وأصبح المقاوم الفلسطيني رمزاً وقدوة للشباب الفلسطيني، وساهم ترميز المقاتلين والمطاردين في إلهام الشباب الفلسطيني والانضمام إلى المجموعات المسلحة، وساهمت اللغة الوطنية غير الحزبية التي يستخدمها المطارد الرمز في رفع مستوى الانتساب والالتحاق بالكتائب القتالية، وساهمت الشخصية المناضلة التي جسدها القائد الوطني أبو الرعد خازم واللغة الخطابية الثورية البارعة ونداءاته المتكررة للوحدة والقتال ومواجهة العدو في تشكيل وعي جمعي وطني متمسك بالمقاومة المسلحة كأداة استراتيجية للتحرير وكنس العدو عن الأرض الفلسطينية، واكتسب المناضل أبو الرعد مصداقية عالية تحققت بالأقوال والأفعال، وهو الذي قدّم أبناءه الأبطال شهداء وأسرى بعدما نفذوا عمليات فدائية.
لجأ العدو إلى نقل المعركة إلى داخل مدن الضفة المحتلة وقراها ومخيماتها، في محاولةٍ منه للحدّ من تنفيذ الفدائيين عمليات عسكرية في الداخل الفلسطيني المحتل، وأطلق على عدوانه عملية “كاسر الأمواج”، وهو سلوك بيّن غباء قيادة العدو، وكان أحد العوامل في تفجير الموقف في الضفة المحتلة، فأخفقت “كاسر الأمواج” ونظرية “جز العشب” وأسلوب “طنجرة الضغط” في وأد العمل المقاوم.
ورغم استشهاد عدد من المقاتلين وأسر آخرين، فإنَّ الغباء الإسرائيلي الذي باتت أساليبه تقليدية ومكشوفة، قابله ذكاء فلسطيني أبدع في استثمار اللحظة، واتبع أساليب أرهقت جيش العدو واستنزفته وجعلته تائهاً وحائراً أمام السمات الإبداعية للانتفاضة الضفاوية، الأمر الذي أجبره على الدفع بمزيد من كتائبه المقاتلة ومنع المستوطنين من زيارة قبر يوسف في نابلس بعدما اشتبكت معه خلايا المقاومة وأصابت جنوده في مقتل عدة مرات، برغم تخصيص كتيبتين مقاتلتين لحراسة قطعان المستوطنين.
ملامح الذكاء والإبداع في أساليب الانتفاضة الثالثة، تجلت في التنوع بالعمل المقاوم، والمزج بين الكم والنوع، والسرعة في التنفيذ، فالأهداف المستهدفة تنوعت بين مواقع وحواجز العدو الثابتة التي شهدت عمليات إطلاق نار شبه يومي، واستهدفت أهدافاً متنقلة، مثل مركبات الجنود والمستوطنين وحافلاتهم أثناء تنقلهم.
وبهدف استنزاف العدو ومشاغلته، ارتفعت حالات إطلاق النار، وأصبحت شبه روتينية، كما لم تغفل الخلايا المسلحة التخطيط لعمليات نوعية، كما حدث في عملية الغور الفدائية في الآونة الأخيرة، والسمة الأخرى هي سرعة التخطيط وتنفيذ العمليات، ما يحدّ من فرص كشف الخلايا وإحباط العمل قبل تنفيذه.
يضاف إلى السمات التي ميّزت الانتفاضة الثالثة قدرتها السريعة على إدراك البيئة الداخلية الفلسطينية، ولا سيما تراجع مكانة السلطة الفلسطينية والقضم المتزايد من شرعيتها وحضورها الشعبي والوطني، ما رفع وتيرة العمل المقاوم ورفع الغطاء عن التنسيق الأمني، ولم يعد العديد من العناصر الأمنية يؤمن بمسار السلطة السياسي والأمني، وانخرط في العمل الفدائي.
كما أن المقاومة استثمرت تزايد اقتحامات العدو والمستوطنين للمسجد الأقصى، واستفزاز مشاعر المسلمين، وغياب الأفق السياسي، والصراع على السلطة وخلافة أبو مازن، في طرح نفسها كخيار وطني وحدوي مدافع عن الحقوق الفلسطينية ومواجهة العدو وغطرسته بعد فشل الخيار التفاوضي.
إنَّ فرص تطوّر الحالة الثورية للانتفاضة الثالثة الذكية الملامح والسمات، لتتحول إلى معركة استراتيجية مع العدو على كل الجبهات، باتت متاحة، وربما تفتح الطريق لتحرير الضفة المحتلة، الأمر الذي يَسعُني أن أطلق عليها انتفاضة تحرير الضفة، وهو الهدف الأدنى الذي يجب أن تعلنه قيادة المقاومة من الانتفاضة المشتعلة والممتدة.
المصدر: الميادين