العين برس:
طوال أيام معركة “سيف القدس”، بقي الأسرى مشدودين نحو شاشات التلفزة. تقريباً قاموا جميعاً بإلغاء برامجهم اليومية، وأصبحت متابعة مجريات المعركة الهمّ الشاغل للجميع.
في عام 2021، كنت في الأسر في قسم يضم 4 فصائل (حماس، الجهاد، الشعبية، الديمقراطية). قبل بدء المعركة (سيف القدس) بأيام، كانت تخيم على الأسرى أجواء من القهر والحزن الممزوجَين بالغضب. كان ذلك بسبب متابعتنا ما يحدث من تصعيد في الشيخ جراح. كان الجميع فعلياً في حالة انتظار كئيب يرافقه شعور طاغٍ بالعجز.
عندما صدر تهديد المقاومة باستهداف مستوطنات القدس الساعة السادسة، لم يحمل الجميع التهديد على محمل الجد، إذ اكتفى البعض باعتباره مجرد تهديد أجوف، بينما تفاعل آخرون بجد مع تهديد المقاومة.
كنت قبل حلول ساعة الوعيد أتمشى في ساحة القسم مع رفقائي. فجأة، خلت الساحة عند الساعة الـ5:50 تقريباً، إذ عادت أغلبية الأسرى إلى مهاجعها.
أدركت أن الجميع تسمَّرَ أمام شاشة التلفزيون، ينتظر دوي صفارات الإنذار في القدس المحتلة. لم تكد تمر 10 دقائق حتى أُطلقت صفارات الإنذار التي كنا نسمعها من داخل السجن، وشرعت القناة الإسرائيلية في إعلان ضرب صواريخ وجهتُها القدس. امتلأ الجو حماسةً، وباشر عدد من الأسرى في التكبير، وآخرون شرعوا في التصفير والتصفيق والضحك. هكذا فجأة، تحوّل الكرب إلى فرح، والعبوس إلى ابتسام. كان رد المقاومة على اعتداء المستوطنين وتنفيذ وعدها في حينه ذا أثر مذهل في المزاج العام للأسرى.
طوال أيام المعركة، بقينا مشدودين نحو شاشات التلفزة. تقريباً قمنا جميعاً بإلغاء برامجنا اليومية، وأصبحت متابعة مجريات المعركة الهمّ الشاغل للجميع. كانت التحليلات والمعلومات بشأن ما يحدث هي حديث الجميع، حتى إن برامجنا الثقافية عُلِّقت حتى انتهاء المعركة.
من جهة أخرى، تصاعد التوتر سريعاً بين الأسرى والسجّانين. كان القلق والخوف يظهران على السجّانين في أثناء تجولهم داخل الأقسام. وسرعان ما سعى مدير السجن للقاء ممثلي الأسرى، من أجل التأكيد أن ما يحدث خارج السجن لا علاقة له بالأسرى وإدارة السجن، ومن أجل ضرورة تجنب أي تصعيد.
عقب الاجتماع حدثنا ممثلونا عنه، وعن أن التوتر والوجوم كانا أمراً “مش مفهوم”، على عكس اللقاءات الأخرى، التي كان يُظهر فيها مدير السجن عنجهيته. لربما هي قدرات المقاومة الجديدة فاجأته أيضاً.
في تلك الآونة، تحوّل كل الأسرى إلى محللين سياسيين. كانت الحالة مثيرة ومشوقة. ترى كلاً منهم يدلي بدلوه، فتلمح الحالم، والرغائبي، والمتشائم، والمتفائل بإفراط، والواقعي… إلخ. كانت وجهات النظر تعكس في مضمونها مستويات الوعي السياسي المتفاوتة.
كان انتهاء المعركة والأحداث الانتفاضية، التي قام بها أبناء شعبنا في المناطق المحتلة عام 1948، سبباً كافياً لنا في أن نصنع الحلويات ضمن إمكاناتنا المتاحة في السجن، ونوزعها على المهاجع، ونُقيم احتفالاً بانتصار المقاومة. بعد عدة أيام، قمنا بإجراء ندوتين سياسيتين لعموم الأسرى في القسم، كان الغرض منهما مناقشة الحالة وتقييمها وسماع مختلف الآراء بشأنها.
في أثناء الحرب، تراجع الحديث عن الحرية التي تشغل الأسرى باستمرار، وانصبّ الاهتمام على ما كان يحدث في الشارع.
منذ 16 عاماً، لم تمر سنة تشبه هذه السنة (2022) من حيث عدد الشهداء الفلسطينيين، كما أنها السنة الأعلى بعدد عمليات المقاومة مقارنة بالسنوات السبع الماضية، بحسب تقرير صحيفة “يديعوت أحرونوت”، المنشور في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2022، إذ أشارت الصحيفة إلى أنها السنة الأعلى من حيث العمليات والإصابات، منذ هبّة السكاكين عام 2015.
مع بداية العام، وعقب وقوع عمليتين أعلنهما “داعش”، ساد جو من القلق والخوف من تصاعد هذه الظاهرة، وخصوصاً أن الساحة الفلسطينية بالعموم لم تتأثر بالظاهرة السلفية الجهادية، مثل غيرها من محيطها العربي خلال العقد الفائت، بالإضافة إلى أن الأسرى يدركون جيداً مدى تأثير الفعل الكفاحي في الشارع الفلسطيني، وتحديداً في فترة يغيب الفعل المقام المنظم عن الضفة المحتلة والداخل. فشعبنا يُعلي كلمة من يحمل البندقية ويشرعها في وجه الاحتلال، فما الحال إذا تصدّر “داعش” المشهد؟
حينها، كانت مواقف الأسرى تجاه هاتين العمليتين بين الرافض لها والمؤيد لها بخجل. لم تكن وجهة النظر تحدَّد في الفعل نفسه، بل في الجهة التي تقف خلف الفعل، ودوافعها. بعد العملية الثانية، ردّد أسرى كثر، بصورة منفردة، أنهم يأملون أن يأتي أي مناضل وينفذ عملية توقف الزخم الذي حازه “داعش” من جراء تنفيذه عمليتيه، وهو ما حدث لاحقاً.
أمّا بخصوص العمليات الفردية، التي يقوم بها شبان فلسطينيون، فتتباين الآراء بشأنها. فهناك من يقف ضدها كونها لا تثمر، بالمعنى السياسي، وغير متكافئة من ناحية المواجهة. فخسائرها محدودة، يستشهد فيها المنفذ في الغالب، أو يُعتقل، لترافقه إعاقة جسدية دائمة طوال فترة حكمه، التي ستتجاوز 15 عاماً.
هذا الرأي يتبنّاه عدد كبير، وخصوصاً المناضلين الذين قاتلوا في الانتفاضة الثانية، والتي كان فيها السلاح متوافراً، وكثرت فيها العمليات الاستشهادية. أمّا الرأي الثاني فيتّفق مع الرأي الأول، من حيث الجدوى السياسية وعدم ندية المواجهة، بيد أنهم يرون أن هذه العمليات تُبقي جدوى المقاومة لدى الشعب. فإن كانت هذه العمليات من دون جدوى في الزمن الآني التكتيكي، إلّا أنها ذات جدوى مستمرة واستراتيجية كونها تسقي نار الغضب القادم، وتجعل فعل المقاومة شيئاً يومياً وجزءاً طبيعياً من الحياة في فلسطين.
ومع بروز نجم عرين الأسود، ظهرت 4 وجهات نظر بين الأسرى:
يؤيد أصحاب وجهة النظر الأولى الظاهرة بقوة، ويعدّونها رداً طبيعياً على جرائم الاحتلال، بل يعوّلون عليها بصورة كبيرة، حتى في تجاوز الأزمة الراهنة للتنظيمات الفلسطينية في الضفة. فأغلبية أصحاب هذا الرأي لم يواكبوا أحداث الانتفاضة الثانية، وهم حديثو التجربة والعمر.
أكّدت وجهة النظر الثانية أن الظاهرة عشوائية وليست منهجية، وغير منظمة، وتفتقد قيادةً وبرنامجاً سياسياً وفكراً. ويرى أصحاب هذه الوجهة أنها تأتي ردَّ فعل عضوياً على الاحتلال، لكنها تفتقد امتداداتٍ شعبيةً وبنى وهياكل تمكّنها من الاستمرار. وهذه العوامل، جميعها، تجعلها ظاهرة سريعة الحضور والانتشار ثم الزوال.
ويدعو أصحاب هذا الرأي إلى إعادة بناء الأحزاب والفصائل في الضفة للقيام بدورها في التصدي للاحتلال، فالفصائل، في رأيهم، هي فقط المؤهّلة لأداء هذا الدور. وأصحاب هذا الرأي يشددون على أهمية التنظيم المحكم، الذي يستطيع تأمين استدامة النضال.
أمّا وجهة النظر الثالثة فهي أقرب إلى اتجاه السلطة. وترى أن الشبّان يضيّعون أعمارهم، وأن طريق العدالة للشعب الفلسطيني متباين عن هذا الطريق. أصحاب هذا الرأي كانوا ينطلقون من أنفسهم، فهم تصدّروا الأعمال العسكرية المقاومة في الانتفاضة الثانية، ثم اعتُقلوا، ولا يزالون حتى هذه اللحظة في السجون يواجهون أحكامهم المؤبَّدة من دون الوصول إلى حل سياسي، ومن دون الإفراج عنهم، كما أنهم يعدّون تجربة الانتفاضة الثانية أكثر تعقيداً وكثافة وحديّة مما يحدث الآن.
ترى وجهة النظر الرابعة في الظاهرة ملامح تشير إلى اتجاهين: الأول، انتفاضة مقبلة تتخذ أشكالاً وصيغاً مغايرة ومتنوعة عن الانتفاضتين، الأولى والثانية. الثانية، ملامح لولادات مقبلة في الأفق. فأصحاب هذا الرأي يدركون أن هذه الظاهرة لا يمكنها أن تكون بديلاً من الأحزاب، بيد أنها تحمل مؤشرات تجاوز الفصائل القائمة. ونظراً إلى عجز الفصائل عن أداء دورها المفترض، هناك فراغ في الساحة الفلسطينية. والطبيعة لا تقبل الفراغ.
من جهة أخرى، تُظهر الظاهرة الجديدة حالة من التنسيق والوحدة الميدانيَّين، وهو أمر يدلّل على صيغ شعبية قد تنشأ مستقبلاً، وجامعها ميداني وليس فصائلياً. كما يؤكد أصحاب هذه النظرية ضرورة عدم محاكمة الظاهرة من السطح، بل النظر إليها بدلالات المستقبل الكامنة (شبابية، تنسيقية ميدانية، مقاومة، متجاوزة البنى القائمة، تتناقض وجودياً مع الاحتلال، وتتباين مع سياسة السلطة)، أي أنه يجب النظر إلى هذه الظاهرة كحالة انتقالية ستنتهي، بيد أنها ضرورية في الظهور ثم التلاشي، نظراً إلى ما سوف تحمل من دروس وعِبَر للأجيال اللاحقة، والتي قد تُفضي إلى حثّ البعض على فتح مسار أمل جديد.
أمّا فيما يخص الأخبار والأحداث الأخرى، وفي ظل زخم التفاعل مع ما يحدث في الضفة، فبدا أن هناك لامبالاة وعدم اكتراث لما يخص حوارات الجزائر بشأن المصالحة الفلسطينية. فلم ألمس اهتماماً جدياً حتى من أعضاء قياديين تجاه حوار المصالحة الذي كان يجري في الجزائر، وكان هناك فقدان أمل من حدوث أي تقدم حقيقي في هذا الملف.
وهو الموقف ذاته تجاه مجريات القمة العربية التي عُقدت في الجزائر في 1 تشرين الثاني/نوفمبر، والتي ربما غطت على أحداثها داخل السجن الانتخاباتُ الإسرائيلية، إذ كان الانشداد إلى متابعة تطورات الانتخابات بين الأحزاب الإسرائيلية أعلى كثيراً من القمة العربية، فلا أذكر أنني سمعت نقاشاً جدياً بشأنها قبل انعقادها وفي أثنائه. وهو ما يوحي بعدم التعويل على قمة العرب في شيء.
بينما كان الاهتمام مرتفعاً بالانتخابات الإسرائيلية، وخشية الجميع من عودة اليمين واليمين المتطرف، الأمر الذي سينعكس عبر إجراءات مشددة على شعبنا وعلى الأسرى أنفسهم.
في العودة إلى السجن وكيفية تفاعل الأسرى فيه، في أثناء العام المنصرم، كان حديث الصفقة هو الحديث المسيطر، فلا مطلب يعلو على مطلب الحرية من الأسر، وتحديداً بعد شهرين من انتهاء معركة “سيف القدس”، إذ عاد يطفو إلى السطح. ومع تراجع الأحداث الميدانية هذا العام، تراجع السؤال عن الحرية في ظل التصعيد الميداني المتواصل في الضفة، على الرغم من أنه يقبع في خلفية كل الأحداث.
عندما يسأل الأسرى، بعضهم بعضاً، السؤال التقليدي “شو الأخبار؟”، نستطيع ربطه بأكثر من أمر، وكلها تصب في النهاية فيما يتعلق بالحرية. فعندما اشتدت المواجهة في نابلس، كان يدور حديث بين الأسرى، ومفاده أن “إسرائيل” تسعى لتعزيز دور السلطة، فما هو الشيء الذي سيعزز دور السلطة في “ضبط الأمن”؟ المال؟ وماذا أيضاً؟ إفراجات؟ من أجل تقوية حضور السلطة!
أمّا عند متابعة الانتخابات الإسرائيلية فيأتي سؤال: “شو الأخبار؟” مرتبطاً بـ”هل حكومة اليمين المتماسكة المقبلة قادرة على اتخاذ قرار بشأن صفقة تبادل مع حماس، وخصوصاً أننا نعيش في السنوات الثلاث الأخيرة في ظل حكومات إسرائيلية هشة؟”. وعلى رغم كل الأحداث فإن سؤال الحرية يبقى قائماً، وإن تراجع إلى الخلف قليلاً.
ربما يكون السجن مكاناً صعباً، منفياً عن حركة الواقع وزمنه الطبيعي؛ مكاناً معزولاً ويسعى لعزل قاطنيه بهدف تغييرهم، وانتزاع جوهرهم الإنساني، بكل ما يعنيه من توق الإنسان إلى العدالة والتحدي والإيمان بالممكن، والشعور بكونه جزءاً من شيء أكبر منه، ومن حلم واسع. لكن، على الرّغم من كل أدواته المتفاوتة في نجاعتها، فإن هذا الحيز القمعي لم يستطع عزل المناضل الفلسطيني عن التأثر بكل ما يجري حوله. تفاعُلُ الأسرى مع مختلف الأحداث يوحي في محافظتهم على كلمتهم، إنسانياً وسياسياً، وفشل السجان في تحويلهم إلى مجرد كائنات بيولوجية ومقهورة.
يكاد لا يمر حدث فلسطيني، عربي، أو عالمي، إلّا ويتفاعل معه الأسرى الفلسطينيون بصورة كبيرة، فهم مهتمون بالشأن العام، ويتفاعلون معه بعمق، وتحديداً الشأن الفلسطيني الداخلي، الذي يشكّل محور اهتمامهم. هذا الارتباط بقضاياهم وبالعالم هو نفسه ما دفعهم إلى النضال في سبيل حريتهم. لكن ارتباط الأسرى العميق بقضايا وطنهم العامة، يجعل مزاجهم يتأثر طوال الوقت داخل السجن بما يحدث خارجه.
وتشكل هذه العلاقة في مضمونها جزءاً من القناعات الوطنية والأيديولوجية، التي تسلح الأسرى نفسياً في مواجهة السجن وزمنه ووسائله المتعددة في إعادة هندسة البشر.
أتاح لي اعتقالي هنا لقاء عدد من الأسرى القدامى المعتقلين قبل اتفاق أوسلو. ولهذا، أحاول قدر الإمكان أن أتحاور معهم، لأفهم تجربتهم، وأسمع آراءهم. وفي سياق حديثي مع أحدهم، سألته عن أساليبه الشخصية في مواجهة السجن، فكيف أمكن له تحمل ما يتجاوز 30 عاماً في السجن؟ فأجاب:
“في كل فترة، في أثناء اعتقالي، كنت أجد عاملاً يعزز قدرتي على التحمل والصمود. لا يوجد عامل واحد محدد يمكن وصفه بالأهم دائماً، بل هناك مجموعة عوامل… أذكر مثلاً، سنة 2000، قبل انتفاضة الأقصى، كنت أشعر، أنا ورفقائي في السجن، بشعور عام من الإحباط. كان شعورنا أننا منسيون. وكان لسان حالنا يقول: علينا مواجهة مصيرنا المجهول بمفردنا! لكن، مع بداية انتفاضة الأقصى ومشاهدتنا ما كان يحدث، بعث فينا هذا الأمر أملاً جديداً. نسينا السجن، وأصبحت الانتفاضة واستمرارها همنا الأساسي، وازدادت عزيمتنا عندما استقبلنا المعتقلين الجدد. كان اعتقال مناضلين جدد يوحي في وفاء شعبنا لقضيته، وتمسكه بالنضال من أجلها. الانتفاضة جعلتنا طوال 5 أعوام لا نفكر كثيراً في سَجننا”.
المصدر: الميادين