يبدو أن الدرس الإيراني تمت دراسته بشكل جيد في موسكو. إيران نفسها تعمل بنشاط من أجل تحقيق أهدافها في المجال الذري العسكري.
كتب إيفان تيموفييف – مدير البرامج في مركز فالداي للنقاشات، مقالاً في موقع “المجلس الروسي للشؤون الدولية” يتحدث فيه عن العقوبات الغربية على روسيا، وكيف أن هذه العقوبات لن تذهب مفاعيلها بمجرد الوصول إلى اتفاق مع الغرب ووقف العمليات القتالية في أوكرانيا، ويستعير التجربة الإيرانية مع العقوبات الإيرانية ليدلل على كلامه، ويرى أن روسيا أمامها فرصة للتكيف والبحث عن فرص جديدة.
وفيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:
أي صراع ينتهي عاجلاً أم آجلاً بالسلام. هذه هي الحكمة التقليدية التي يمكن سماعها غالباً من أولئك الذين يحاولون، في الظروف الحالية المتمثلة في تسونامي العقوبات والمواجهة مع الغرب، إيجاد الأمل من أجل العودة إلى “الحياة الطبيعية”. منطق هذه الحكمة بسيط: في مرحلة ما، سيوقف الطرفان إطلاق النار ويجلسان على طاولة المفاوضات، وسيؤدي إنهاء الأعمال العدائية إلى خفض تدريجي في ضغط العقوبات على روسيا، وسنكون قادرين على العودة إلى النشاط التجاري والاقتصادي مع الشركاء الغربيين. لكننا مضطرون إلى أن نخيب أمل أولئك الذين يؤمنون بمثل هذا الاحتمال.
على الأرجح، لن يتم رفع العقوبات المفروضة على روسيا، حتى مع وقف إطلاق النار في أوكرانيا والتوصل إلى اتفاق. لن تكون هناك عودة إلى “الوضع الطبيعي قبل شباط/فبراير” (بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا – المترجم). وبدلاً من تذكر الماضي الضائع، سيتعين علينا التركيز على خلق مستقبل جديد، تبقى فيه العقوبات الغربية متغيراً ثابتاً.
فلماذا يعتبر رفع العقوبات الغربية عن روسيا أمراً مستبعداً للغاية؟.. هناك عدة أسباب.
السبب الأول: هو الصراع المعقد بين أوكرانيا وروسيا، إذ لديه كل فرص الاستمرار لفترة طويلة. قد يكون هناك توقف مؤقت في الأعمال العسكرية النشطة، ويمكن للأطراف إبرام هدنات مؤقتة. ومع ذلك، من غير المرجح أن تزيل مثل هذه الهدنات التناقضات السياسية التي أدت إلى اندلاع الصراع.
ولا توجد حالياً معايير للتسوية السياسية التي تناسب جميع الأطراف. وحتى إذا تم التوصل إلى اتفاق بين موسكو وكييف، فإن استدامته وجدواه غير مضمونتين. إذ تُظهر تجربة اتفاقية مينسك -2 أن توقيع الاتفاقيات لا يحل تلقائياً المشاكل السياسية، ولا يؤدي إلى رفع أو تخفيف العقوبات. ويمكن أن تشتعل المشكلة الأوكرانية مرة أخرى لعقود، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن إمكانيات كلا الجانبين محدودة لجهة تحقيق نصر عسكري حاسم واستسلام كامل للعدو.
من هنا، تتعرض العلاقات بين روسيا وأوكرانيا لخطر الدخول في قائمة الصراعات طويلة الأمد، على غرار العلاقات بين الهند وباكستان وكوريا الشمالية والجنوبية. إن تعقيد الصراع وطول أمده يضمن العقوبات الغربية على المدى الطويل.
السبب الثاني: هو الطبيعة المزمنة للتناقضات بين روسيا والغرب. الصراع في أوكرانيا هو جزء من لوحة أمنية أوروبية أطلسية أكبر. لقد تشكل في أوروبا نظام غير مستقر من القطبية غير المتكافئة، حيث يكاد يكون أمن روسيا وحلف الناتو غير قابل للتجزئة. ليس لدى روسيا إمكانية لسحق الغرب دون إلحاق ضرر غير مقبول بنفسها. في نفس الوقت، فإن الغرب، على الرغم من تفوقه الهائل، لا يمكنه كذلك سحق روسيا دون خسائر غير مقبولة.
إن احتواء روسيا هو أفضل استراتيجية بالنسبة للغرب. أوكرانيا محكوم عليها أن تظل واحدة من مناطق الاحتواء.
بالنسبة لروسيا، تبقى استراتيجية التوازن غير المتكافئ للتفوق الغربي هي الأمثل. ومن غير المستبعد أن يكون جزء من هذه الاستراتيجية هو إعادة توزيع جذري للأراضي لأوكرانيا، وإزالة الأجزاء الشرقية والجنوبية منها. لكن إعادة التوزيع في حد ذاتها لن تنهي مشكلة العقوبات الغربية.
السبب الثالث: هو الطبيعة المؤسساتية لسياسة العقوبات. تُظهر التجربة أنه من السهل نسبياً فرض العقوبات ولكن من الصعب جداً رفعها. ففيما يتعلق بإيران، تشكلت في الولايات المتحدة “شبكة كاملة من القوانين”، تحد بشكل كبير من قدرة الإدارة الأميركية على رفع العقوبات. حتى لو لم تكن العقوبات منصوصاً عليها في القانون، فإن إلغائها أو تخفيفها لا يزال يتطلب رأس مال سياسي ليس كل سياسي مستعداً لإنفاقه.
في الولايات المتحدة، ستسبب مثل هذه الخطوات انتقادات أو حتى معارضة في الكونغرس، وفي الاتحاد الأوروبي، وخلافات بين الدول الأعضاء. بطبيعة الحال، يتم رفع القيود الفردية أو تخفيفها لصالح البلدان التي بدأت المبادرة نفسها. وتُظهر تجربة ضغوط العقوبات على جمهورية بيلاروسيا وجود إمكانية “تخفيف العقوبات” عند تخفيف القيود. ومع ذلك، تبقى الآليات القانونية للعقوبات هي ذاتها، ويمكن اللجوء إليها في أي وقت.
السبب الرابع: هو سرعة ارتداد العقوبات، إذ غالباً ما يكون إلغائها مصحوباً بمطالب سياسية، ويعتبر تنفيذها عملية صعبة. على سبيل المثال، تطلب الاتفاق النووي الإيراني عدة سنوات من المفاوضات المعقدة والقرارات التقنية المهمة. في حين أن عودة العقوبات يمكن أن تتم بين عشية وضحاها. إذا هناك عدم تناسق في الوفاء بالالتزامات، وتلبية مطالب المبادرين تتطلب تغييرات كبيرة، في حين أن عودة العقوبات لا تتطلب سوى قرار سياسي.
يؤدي الانعكاس السريع إلى انعدام الثقة بين البلدان المستهدفة. من الأسهل عليهم الاستمرار في العيش تحت العقوبات بدلاً من تقديم تنازلات كبيرة مع خطر تلقي عقوبات جديدة. تظهر التجربة التاريخية أن المبادرين للعقوبات يميلون إلى ممارسة لعبة “القضاء” على الخصم.
بعد التنازلات تأتي مطالب سياسية جديدة أكثر راديكالية وتهديدات بفرض عقوبات جديدة. وأصبحت نقاط بومبيو ال13، وهي قائمة بمطالب الولايات المتحدة من إيران بما يتجاوز الوفاء بشروط الاتفاق النووي، مثالاً نموذجياً.
ويبدو أن الدرس الإيراني تمت دراسته بشكل جيد في موسكو. إيران نفسها تعمل بنشاط من أجل تحقيق أهدافها في المجال الذري العسكري. وفي المحصلة، يظهر هذا عدم فعالية العقوبات من حيث التأثير على المسار السياسي للبلد المستهدف. لكن الفعالية المشكوك فيها لا تنفي بذات الوقت حقيقة استمرار تطبيق العقوبات وإنفاذها.
السبب الخامس: هو القدرة على التكيف. لا شك أن روسيا ستعاني من أضرار جسيمة من الإجراءات التقييدية التي تم اتخاذها ضدها، ومع ذلك، لا تزال قدرتها على التكيف مع نظام العقوبات عالية.
أولاً، لدى روسيا فرصة للتعويض جزئياً عن النقص في الإمدادات من الخارج بمساعدة صناعتها، رغم أن هذا سيتطلب إرادة سياسية وتركيزًا للموارد.
ثانياً، لديها فرص للوصول إلى الأسواق غير الغربية، فضلاً عن المصادر البديلة للسلع والخدمات والتقنيات. إن الشروط الأساسية لحل هذه المشكلة ستكون عبر إنشاء قنوات موثوقة للمعاملات المالية التي لا تتعلق بالدولار الأميركي واليورو وكذلك بالمؤسسات المالية الغربية. هذه المهمة ممكنة من الناحيتين التقنية والسياسية، على الرغم من أنها ستتطلب أيضاً الوقت والإرادة السياسية.
تُظهر تجربة إيران أن العقوبات تؤثر بشكل خطير على فرص التنمية في البلاد، لكنها لا تتدخل في تطوير الزراعة والصناعة والتكنولوجيا.
إن عملية “تحديث” الاتحاد السوفياتي جرت أيضاً في ظل عقوبات غربية قاسية. القدرة على التكيف تقلل من الدوافع لتقديم تنازلات لمطالب البلدان المبادرة للعقوبات، خصوصاً مع الأخذ بعين الاعتبار مخاطر لعبة “شطب الخصم”.
تجعل هذه الأسباب احتمال رفع أو تقليل ضغط العقوبات على روسيا أمراً مستبعداً للغاية. لقد فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهما بالفعل أشد القيود على موسكو. لكن الموجة التصاعدية لتشديد العقوبات لم تستنفد بعد.
ومع ذلك، فإن العقوبات لا تعني أيضاً “نهاية التاريخ” للاقتصاد الروسي، الذي وجد نفسه في ظروف جديدة تتطلب التكيف والبحث عن فرص جديدة للتطور والنمو.
نقله إلى العربية: فهيم الصوراني
المصدر: الميادين