العين برس:
يُعَدّ تراجع الدافعية إلى القتال لدى جنود الاحتلال، وتضاؤل الاستعداد للتضحية لدى “المجتمع” في “دولة” الاحتلال، أبرزَ ملامح الصهيوني الجديد في عصر الحداثة والرفاهية.
تُعرَّفُ مقاومة المحتل بأنّها الجهود المبذولة لجعل ثمن البقاء في الأرض المسروقة غالياً وأكبر من المكاسب التي يُرجى تحقيقها، وهذا الأمر هو ما يجتهد الفلسطينيون في فعله. فبعد أن اشتدّ عود الفعل المقاوم في الأراضي الفلسطينية، وتواصلت موجاته في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأخيراً في الداخل المحتل عام 1948، باتت الثقة الداخلية للاحتلال أضعف وأقل ممّا كانت عليه في السابق.
وهذا ما تكشفه استطلاعات الرأي داخل “المجتمع” الإسرائيلي، التي تشير إلى ارتفاع متزايد فيمن لا يرغبون في تقديم التضحية ضمن الجيش من أجل الأمن في “دولة” الاحتلال.
وخلال العقدين الأخيرين، ظهر جلياً حجم التراجع الكبير في عملية التجنيد ضمن الوحدات القتالية الميدانية، وارتفعت الرغبة لدى شرائح واسعة في “مجتمع” الاحتلال في أن تكون الخدمة الإلزامية للجنود ضمن الوحدات الإلكترونية. وفي هذا الأمر، كرّست عائلات كثيرة في مدن المركز جهودها في أن تكون خدمة أبنائها في الوحدات غير القتالية، عبر استغلال الفترة التي تسبق التجنيد في تعلّم البرمجة والتكنولوجيا.
ويُعَدّ تراجع الدافعية إلى القتال لدى جنود الاحتلال، وتضاؤل الاستعداد للتضحية لدى “المجتمع” في “دولة” الاحتلال، أبرزَ ملامح الصهيوني الجديد في عصر الحداثة والرفاهية، وهو ما يشير إلى جيل نشأ في “دولة” الاحتلال على غير ما تربى عليه الجيل الأول من المؤسِّسين.
مؤخَّراً، أظهر استطلاع للرأي، أجراه معهد “بانيلز” للسياسة، أنّ الأغلبية العظمى من الإسرائيليين تعارض شنّ حرب على قطاع غزة تسفر عن مقتل المئات من جنود الاحتلال في مقابل الهدوء لمدة 15 عاماً، وذلك بعد الإجابة عن سؤال افتراضي، مفاده أنّه في حال صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي قائلاً: “نحن يمكن أن نقوم بعملية عسكرية واسعة النطاق في غزة، وهي عملية لم يتمّ القيام بها من قبلُ. النتيجة المؤكدة ستكون هدوءاً تاماً من القطاع، لا إطلاق نار لمدة 15 عاماً، وقد يكون الثمن، للأسف الشديد، ما يصل إلى 300 قتيل من جنود الجيش الإسرائيلي. فهل ستؤيد القيام بهذه العملية؟”.
نتيجة الاستطلاع بشأن السؤال الافتراضي أظهرت أنّ 65% من “مجتمع” الاحتلال رفضوا العملية العسكرية، في مقابل 21% فقط وافقوا عليها، بينما وافق 29% من سكان “غلاف غزة” على تنفيذها. وهذه النتائج تعني أنّ الأغلبية الساحقة من “مجتمع” الاحتلال ليست مستعدة للتضحية بأرواح الجنود من أجل تحقيق الأمن لسكان مستوطنات “غلاف” قطاع غزة.
الأرقام، التي ظهرت في الاستطلاع، مفاجئة بصورة كبيرة، وتشير إلى انقلاب كبير وتزايد في تخوفات “المجتمع” الصهيوني من المواجهة العسكرية، التي باتت اليوم صعبة ومؤثرة. وربما، في حال حدثت في أكثر من جبهة، تتطور لتكون مُهدداً وجودياً لـ”دولة” الاحتلال.
وهنا، يمكن استحضار كلام د. بنينا شكر، الخبيرة الإسرائيلية في قضايا الأمن القومي والرأي العام والسياسة الخارجية، والتي قالت إنّ “دولة” الاحتلال تعاني حالياً مشكلة معقّدة تتمثّل باعتقاد صنّاع القرار أنّ الخسائر في صفوف مقاتلي “الجيش” سوف تؤدي إلى إحباط معنويات “الجمهور”. وبقيامهم بذلك، فإنّهم يُولون وزناً غير ملائم للحساسية المزعومة لـ”المجتمع” الإسرائيلي تجاه “الخسائر البشرية”، وتقييد حرية “الجيش” الإسرائيلي في العمل في زمن الحرب عبثاً، الأمر الذي يؤدّي إلى إنجازات محدودة، هي في الواقع تلك التي تخلق حالة من الإحباط لدى الجمهور.
إنّ التراجع الذي حدث في الدافعية إلى القتال وإلى التضحية لدى “مجتمع” الاحتلال يُعزى، في صورة أساسية، إلى الحروب الأخيرة التي خاضها “جيش” الاحتلال في لبنان عام 2006، وفي قطاع غزة عام 2014، تزامناً مع رؤية داخلية تعزّزت لدى شرائح متعددة في “المجتمع” الإسرائيلي، مفادها أنّه لا توجد قيادة على المستوى الحزبي أو الحكومي تستحق التضحية وخوض المغامرات معها.
تغيّرات كبيرة حدثت خلال الأعوام الماضية قد تكون نتيجة عوامل أخرى مرتبطة بالمعارك والحروب مع المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، دفعت “المجتمع” الإسرائيلي إلى تغيير تفكيره تجاه “الدولة” والتضحية والقتال، أبرزها أنّ هناك رؤية ترسّخت، مفادها أنّه لا يوجد أفق لحلّ القضية الفلسطينية، وأنّ لا سبيل إلى التخلص من الفلسطينيين أو تدجينهم ومنعهم من المقاومة وتوجيه الضربات الكبيرة إلى “الجيش” و”المجتمع” الإسرائيليَّين.
ومن الأسباب التي دفعت إلى هذه التغييرات بسالةُ المقاتلين في المقاومة، وإصرارهم الدائم على كسر حالة التفوق العسكري لدى “دولة” الاحتلال، واستطاعتهم، في كثير من المرّات، كسر هيبة “جيش” الاحتلال. فمن بنت جبيل في جنوبي لبنان، إلى حي الشجاعية شرقي غزة، وعملية “نحال عوز” داخل الموقع العسكري شرقي القطاع، تغيّر كثير من المعتقدات لدى “المجتمع” و”الجيش” والقيادة، وباتت هناك قناعة بأنّه كلما تلقّت المقاومة ضربة فإنّها تزداد قوة، وتعمل على تطوير أدواتها.
في الخلاصة، يجب أن ندرك جيداً أنّ برنامج المقاومة في المنطقة استطاع، بكل بساطة، جَعْلَ ثمن احتلال فلسطين كبيراً. وما التراجع في الدافعية إلى القتال، وتضاؤل التضحية في “مجتمع” الاحتلال، إلّا نتيجة لتضحيات كبيرة من المقاومة، انعكست بصورة سلبية كبيرة على المستوى السياسي في “دولة” الاحتلال، وصنعت هواجس كبيرة أمامه. فحالة الانقسام والتشرذم الحزبيَّين تفرض على المستوى السياسي عدم الذهاب إلى مغامرات يمكن أن تؤثّر في المستقبل السياسي الخاص بقادة الأحزاب وأطراف الائتلاف الحكومي.
المصدر: الميادين