الصراع السعودي الإماراتي يخرج إلى العلن من حضرموت إلى السودان ومآلات التفتيت تحت المظلة الأمريكية

لم تعد العلاقة بين الرياض وأبوظبي تسير وفق ما كانت قبل عقد حين اجتمعتا تحت راية الولايات المتحدة في العدوان على اليمن، فالطرفان -وإن استمرا في ذات الدور الوظيفي لخدمة المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة- يتصارعان اليوم على المكانة الإقليمية والاقتصادية، وما تسمح به واشنطن من هامش جيوسياسي، وما كان خفيًا أصبح جليًا في الأشهر الأخيرة، مع تحركات عسكرية وسياسية واقتصادية تكشف حدود الانكشاف الذي يُنذر بما هو أسوأ.

حضرموت رأس جبل الجليد
محافظة حضرموت، بثروتها النفطية التي تمثل 60% من الإنتاج اليمني وموقعها الاستراتيجي المطل على بحر العرب، مثَّلت دومًا محور الأطماع السعودية والإماراتية وساحة اصطدامهما المبكّر.

طوال عقود، نظرت الرياض إلى حضرموت باعتبارها الممر الاستراتيجي نحو بحر العرب، والفِناء الخلفي الجيوسياسي الذي لا تهاون فيه؛ عملت على استقطاب شخصيات قبلية وسياسية، ومنحت عشرات القيادات اليمنية الحضرميةِ الجنسيةَ السعودية في خطوات قرأها مراقبون أنها تهيئة متدرجة لحضور دائم على السواحل المفتوحة، وتهيئة الأرض لاحتلال مباشر. ومع الحرب على اليمن دعمت الرياض قوات “درع الوطن وحماية حضرموت”، تحت لافتات “الحكم الذاتي” للحفاظ على موطئ قدم عسكرية وسياسية.

في المقابل اندفعت الإمارات نحو المحافظات الجنوبية، منشئة تشكيلات عسكرية تتبع مباشرة لأبوظبي، ومتبنية دعوات تقسيم اليمن إلى كيانات متصارعة. تقارير “معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى” تقدر قوة هذه الميليشيات بنحو 60-90 ألف مقاتل في الجنوب اليمني، وأصبح المشروع الإماراتي أكثر وضوحًا بدعم المجلس الانتقالي الجنوبي، والسيطرة الفعلية على عدن وسواحل جنوبية حيوية.

الأخطر وقع ويقع هذه الأيام، حين دفعت أبوظبي بتعزيزات عسكرية نحو حضرموت في محاولة لفرض نفوذ إماراتي كامل على المحافظة، وتطويق السعودية من خاصرتها الجنوبية البحرية بينما تعمل الرياض على تعزيز قواتها الموازية في مشهد يشبه تقاسم جثة المريض، وهو ما يعيد تجديد ما تؤكده صنعاء وتحذّر منه منذ زمن من أن الهدف المتواري منذ اليوم الأول لهذا التحالف العدواني هو تقسيم اليمن عبر الكيانات الموازية والمتصارعة، وبإشراف ورعاية وهندسة أمريكية.

السودان: امتداد الجغرافيا السياسية
في السودان، تتحول الخلافات إلى صراع مسلح تدعم فيه أبوظبي قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو حميدتي، بينما تقف الرياض إلى جانب الجيش النظامي لعبد الفتاح البرهان.

السودان يُشاطئ السعودية عبر البحر الأحمر على مساحة واسعة من الضفاف، ودخول الإمارات هنا لا يقتصر على نهب الثروات الذهبية والزراعية، بل يؤسس ساحة تهديد جيوسياسي مباشر للسعودية على الضفة المقابلة، وتنظر الرياض إلى الوجود الإماراتي النشط هناك باعتباره أداة ضغط، لا استثمارًا اقتصاديًا فحسب.

منتصف العام الماضي نقلت بي بي سي عن مصادر دبلوماسية غربية أن المملكة طالبت واشنطن بفرض عقوبات على الإمارات على خلفية تسليحها الدعم السريع كما كشفت تقارير أمريكية عن طلب سعودي صريح بهذا الخصوص، وهو تطور يعكس مستوى غير مسبوق من التوتر بين الحليفين داخل غرف السياسة الدولية.

الاقتصاد حرب المقرات والأسواق
إطلاق رؤية 2030 مثّل إعلانًا تريد السعودية أن تنتقل به من الدولة المنتجة للنفط إلى مركز إقليمي للأعمال، في مواجهة نموذج أبوظبي ودبي الذي هيمن لعقود. القرار الأهم كان إلزام الشركات الدولية بنقل مقارها الإقليمية إلى الرياض مقابل الحصول على العقود الحكومية بحلول 2024.

استجابت 571 شركة عالمية، بينها أمازون وغوغل ومايكروسوفت، بينما سجّلت الإمارات انخفاضًا بنسبة 31% في المشاريع الجديدة. ردت أبوظبي بإلغاء المزايا الجمركية على المنتجات السعودية من المناطق الحرة، وفرضت قيودًا على الاستثمارات السعودية.

وفي سياق اقتصادي متصل وعلى جبهة النفط تحديداً في أوبك بلس، تتجاوز أبوظبي حصصها المتفق عليها بمعدل 200-300 ألف برميل يوميًا، ما يضغط على أسعار النفط ويعرقل سياسة المملكة الإيرادية. تبرر الإمارات طلبها باستثمارات ضخمة في رفع قدراتها الإنتاجية، لكن الرياض ترى أن هذه السياسات تضرب استقرار السوق، وتدمّر قدرتها على تمويل مشاريع رؤية 2030.

كل اجتماع داخل أوبك بلس أصبح اختبارًا لإدارة الخلاف بين رؤية السعودية للاستقرار واندفاعة الإمارات نحو زيادة الصادرات.

وفي وجه آخر من وجوه الصراع القديم المتجدّد أصدرت الإمارات في أبريل 2024 قرارًا بتحويل محيط جزيرة “الياسات” إلى منطقة بحرية محمية. ردت الرياض بأن هذا الإعلان عديم الأثر وباطل، ورفعت شكوى رسمية إلى مجلس الأمن اعتبرته السعودية محاولة لفرض أمر واقع في منطقة حساسة من مياه الخليج، وتوسعًا بحريًا يهدد خطوط التماس البحرية.

تحت المظلة الأمريكية: لعبة الهوامش
رغم كل هذا، لا يغيب أن الرياض وأبوظبي تتحركان ضمن هامش أمريكي مصرّح به، فهما تنتميان لذات المعسكر، وتخدمان ذات المشروع، لكن التنافس على خدمة واشنطن حصريًا بات يدفعهما إلى حدود الاشتباك المفتوح: السعودية تسعى لتقديم نفسها كرمز للاستقرار الإقليمي، بينما تقدم الإمارات نفسها كمركز مالي وعسكري أكثر مرونة وفعالية.

ما يجري في حضرموت والسودان وأوبك بلس والمياه الإقليمية ليس صراعًا عابرًا، بل ترجمة لسنوات من الأطماع المكتومة ومساعي التفتيت الممنهجة للدول العربية، خصوصًا اليمن والسودان. والمخيف أن كل هذا يجري بغطاء أمريكي يستخدم كلا الطرفين كأدوات متنافسة لا كحلفاء متكاملين.

مآلات الصراع
إن استمرار هذا الصراع يعني مزيداً من تعميق التقسيم في اليمن، فمع استمرار التنافس على حضرموت والجنوب، ستتجذر الكيانات الموازية، وتصبح الحدود الجديدة أمرًا واقعًا. لا تختلف الصورة كثيراً في السودان، حيث الصراع في ذروته بين السعودي الإماراتي، وهو ما يمنع فرصة لحل سياسي شامل، بل ويزيد الطرفان تغذية الحرب وبالتالي تمديد فترات بقائها إلى أجل غير مسمى.

كما أن حرب النفط القائمة تشي باستمرار الخلاف، وقد يهدد التكتل النفطي ويقوّض أسعار الطاقة، ولكن في قبضة الأمريكي وتحت سيطرته. وتدفع الخطوات البحرية المتصاعدةُ بين الطرفين المنطقةَ إلى نزاعات حدودية مسلحة.

التحالف الذي كان يُقدَّم بوصفه الأكثر تماسكًا في الخليج، بات اليوم يتحرك على مساراتٍ متنافرة تهدد استقرار البلدان العربية، وتصب في خدمة المشروع الصهيوني لتمزيق المنطقة تمهيداً لاستباحتها. واليمني الذي رأى بلاده تُفتَّت على يدي هذا التحالف، يدرك اليوم أن المشروع لم يكن يومًا إلا تفتيتًا ممنهجًا، وأن الخلاف الحالي هو مجرد اقتسام للغنيمة بين شريكَي احتلال متنافسين على خدمة الأمريكي، ويتسابقان للفوز بخدمته وتنفيذ أجندته.

تقرير | يحيى الشامي

 

اشترك وانظم ليصلك آخر الأخبار عبر منصات العين برس على مواقع التواصل الإجتماعي :

واتس أب تيليجرام منصة إكس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *